fbpx
أهم الأخبارمنتدي الدكاترة

د. خالد أمين يكتب: الأطباء لا يذهبون إلى الساحل

“كثير من الناس لديهم فكرة خاطئة عن السعادة. لن تتحقق من خلال تلبية الرغبات بل بالتضحية من اجل هدف نبيل” هيلين كيلر.

كنت في السنة الخامسة بكلية الطب وفي وسط امتحانات العملي لمادة الباطنة العامة، وها أنا عائدًا من مراجعة تلك الحالات المحجوزة بقسم الباطنة بالدور الخامس بمستشفى الحسين.

“كانت تلك هي المرة الأولى التي أطالع فيها هذا الكم من المرضى في وقت قصير”

كان مرورًا كالقفز على رمال محترقة، فكلما قفزت من كومة ظانًا نجاتك من حرارتها أعادتك الجاذبية لكومة أخرى، وكلما انتهيت من متابعة ملف مريض مزمن انتقلت إلى مريض ينتظر الموت، وهذا الشاب الذي أنهكته الأمراض فأصبح عجوز الجسد والروح، وتلك الأم التي تركت أولادها وجاءت تلاحق أملا يبدو أنه بعيدًا، وذاك الذي دمرت الفيروسات كبده، وهذا الذي يعاني دون ان نعرف تشخيصا حقيقيا لمرضه وكذا بقية المرضى.

كانت تلك هي المرة الأولى التي أطالع فيها هذا الكم من المرضى في وقت قصير، وخرجت يومها ماشيًا لا أدري ما بي..
كان من أيام الاثنين وموافقًا لشم النسيم والجو بالغ الرقة والناس سعداء يحملون أكياسهم ومتاعهم ويتقافزون بين سيارات شارع الأزهر متوجهين لحديقة الأزهر.

لكني لم أكن سعيدًا ولا أعرف كيف هؤلاء سعداء، هل لا يعلمون؟ وهل لم يروا ما رأيت أما ماذا ؟؟
هل يظنون خيرًا بالدنيا وهل بهم من العلل التي قد تجعلهم ينامون على مثل تلك الأسرة يوما ما؟؟
كان احساسا بالغ القسوة ومازلت أذكره .

في 28 يناير 2011 حضرت واقعة استقبال عشرات القتلى والمصابين بالطلق ناري بمستشفى السيد جلال، وكان يومًا من أقسى أيام حياتي ان لم يكن أقساها، فكان المصابون يفترشون الأسرة والطرقات بل وفي الشارع حين زادت الأعداد، وكان الأطباء والممرضين يلهثون ويتقافزون بين المصابين ما بين اسعاف هذا وايقاف نزيف هذا ثم تلقين الشهادة لمصاب يلفظ أنفاسه، أو ترك مصابا ميئوس من حالته لمصاب أخر له فرصة أكبر من النجاة.

بكيت يومها كما لم أبك من قبل وكانت الدنيا أمامي لا معنى لها.

في 11 فبراير حين كان يتقافز الجميع سعداء تذكرت هذه الليلة وأنا أسأل نفسي هل رأى كل هؤلاء السعداء ما رأيت ؟؟
هل يعلمون الأثمان التي دفعها البعض؟؟ هل لقنوا شهيدًا او تابعوا أنفاسا تتهادى في الخفوت دون ان يكن بيدهم شيئا؟؟
حينها لم أكن سعيدا كثيرا.

بعد عامين كنت شاهدا علي أحداث قتالية في شارع بين السرايات وكان المصابين يُنقلون على الأعناق إلى مستشفى بولاق الدكرور ورأيت مواطنين وشرطيين (منهم العميد ساطع النعماني) تبدلت حياتهم في دقائق وتغيرت أقدارهم بسبب سنتميترات بسيطة او ثواني فصلت بين وجودهم في مكان ما ـو غيره.

في اليوم التالي كانت الحياة تسير طبيعية في الشارع والمستشفى وكان الناس يمشون في أجوائهم والبعض منهم يبتسم وأنا أتسائل: هل رأى هؤلاء ما رأيت ؟؟ وهل قضوا ليلة مثل ما قضيت ؟؟

21% من الأطباء يعانون من القلق ونفس النسبة تعانى من الاكتئاب

مابين معايشة لظروف ضحايا أحداث كبيرة، وما بين ضحايا حوادث عادية أخرى أو ضحايا أوبئة او أمراض مزمنة أو أورام خبيثة أو أمراض القلب أو غيرها، ندبات بالقلب تستقر وصور ذهنية عن قيمة الحياة قد تنشأ.

في دراسة منشورة لباحثين من جامعة القاهرة وباحثين من جامعات انجليزية على عينة موسعة من الأطباء المصريين تحت عنوان Mental health, risk perception, and coping strategies among healthcare workers in Egypt during the COVID-19 pandemic
وجد ان حوالي ٢١٪ من المشاركين يعانون من أعراض قلق بين بسيطة ومتوسطة وأكثر من ٢١٪ يعانون من اعراض اكتئابية متوسطة وشديدة.

تلك الأعراض التي لا تختلف كثيرًا في الظروف العادية للأطباء هي أعراض تهدد قدراتهم الذهنية علي الاستمتاع بتلبية الرغبات الطبيعية كالذهاب الى السينما او السفر لرحلة قصيرة او حتى الاشتراك في مناسبات اجتماعية سعيدة.

دراسة أخرى تمت على أكثر من ٤٥٠ مشارك وجهت لهم أسئلة عن أكثر الرغبات التي تشعرهم بالسعادة والرضا وكانت معظم الاجابات هي عن النوم أو الابتعاد عن التليفون لا أكثر.

66% من الأطباء ينهون اجازاتهم قبل ميعادها

أكثر من ٦٦٪ انتهت اجازاتهم الأخيرة قبل ميعادها وأكثر من ٥٠٪ منهم كان ممكن ان يستكملوا اجازاتهم لكنهم فضلوا إنهائها لأسباب تتعلق بالعمل.

يتداخل مفهوم أخر عند الأطباء في تقدير مسألة السعادة تلك، وهو مفهوم الرضا، فحتى لو توافرت كل مسببات السعادة للطبيب فهو قد لا يشعر بالرضا تماما عن نفسه أو يشعر بتأنيب الضمير بسبب تقصير غير موجود إلا في عقله الباطن وأفكاره الداخلية وهو الشعور (الرضا) الـذي يتعاظم لديه أثناء ممارسة عمله حتى وان لم يكن سعيدا.

أكثر من ٤.٦٪ من المشاركين بدراسة أخرى لا يرون جدوى من الحياة حسب تعبيرهم وهم ينتظرون مصيرًا محتومًا كمرضاهم.

الأطباء قد لا يذهبون للساحل بسبب التكاليف المادية كثيرًا، ولكن الأكثر هو بسبب حالة الاحتراق الوظيفي التي يدخل فيها الطبيب او بسبب تذبذب حالة الرضا عنده اثناء ممارساته الترفيهية المختلفة.

تلك التكلفة النفسية التي يدفعها دارس الطب والعامل به هي التكلفة الأكبر التي يجب أن يعيها من يختار هذا الطريق.

فبعيدًا عن ما تبادر إلى ذهن القارىء من العنوان عن التكلفة المادية ومقارنتها بأجور الأطباء غير المنطقية، فالأطباء لا يذهبون الساحل.

د. خالد أمين

الأمين العام المساعد لنقابة أطباء مصر

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى