د. ماجد فياض يكتب: الصحافة الطبية بين الإثارة والتريند
في أحد النقاشات داخل مجموعة “واتساب” تجمع بين الصحفيين المهتمين بالشأن الصحي والأطباء، طرحتُ سؤالًا بسيطًا:
هل توجد في كليات الإعلام أقسامٌ متخصصة في الصحافة الطبية، كما هو الحال في صحافة الاقتصاد أو الفن أو الرياضة؟
فجاءت الإجابة القاطعة: لا.
ولقد بحثتُ بعد ذلك فلم أجد أي جامعة مصرية تقدّم حاليًا تخصصًا مستقلاً باسم “الصحافة الطبية”، سواء على مستوى البكالوريوس أو الدراسات العليا.
لم أعثر على برنامج جامعي رسمي يحمل هذا الاسم ضمن كليات الإعلام.
تساءلتُ:
كيف يُعقل أن يكون الطب — وهو أكثر مجالات الحياة التصاقًا بالإنسان — بلا جسرٍ إعلامي مؤسَّس أكاديميًّا، ولا دراسات ماجستير أو دكتوراه في الصحافة الطبية تُترجم لغته العلمية إلى لغة المجتمع؟
كيف يُترك مجالٌ بهذه الحساسية لمجرد الاهتمام الشخصي من الصحفي، أو لتكليفٍ عابر من رئيس التحرير لتغطية الشأن الصحي؟
ورغم اتساع مجالات الإعلام وتخصصاته الحديثة، لم تتبنَّ أي جامعة مصرية حتى الآن قسمًا أكاديميًا يحمل اسم «الصحافة الطبية». فالصحفي الذي يكتب عن أسعار الدواء، أو عن خطأٍ طبي، أو عن حالةٍ إنسانية، يفعل ذلك في معظم الأحيان من منطلق عام لا تخصصي.
وهنا تكمن المشكلة: إذ يقع الصحفي — بحسن نية أحيانًا — في فخ التهويل أو التهوين، أو في اجتزاء المشهد دون درايةٍ بتعقيدات القرار الطبي وأبعاده الأخلاقية والإنسانية.
وليس ذلك انتقاصًا من نية الصحفي، بل نتيجة لغياب التأهيل العلمي الذي يزوّده بالأدوات اللازمة للفصل بين المعلومة والانطباع، فلا يقع في فخ التهويل أو التهوين، ولا يصوغ المعلومة كما تُصاغ العناوين المثيرة.
إنّ الحاجة إلى قسمٍ دراسي في الصحافة الطبية باتت ضرورة لا ترفًا.
قسمٌ يتخصص فيه طلاب الإعلام، يتلقّون خلاله تدريبًا أكاديميًا ومنهجيًا على التعامل مع المصادر الطبية، وفهم المصطلحات العلمية، والتمييز بين المعلومة الموثوقة وتلك التي تعتمد على الإثارة أو التلاعب.
فالصحفي غير الملمّ بالخلفية الطبية قد يخطئ في العنوان، أو يسقط في فخ تضخيم القصة، أو يتبنّى وجهة نظر المريض المطلقة ظنًّا منه أنه “صوت الغلابة ومن لا صوت لهم”، فيُضلّل الجمهور بدل أن يثقّفه.
في عددٍ من الدول المتقدّمة، خُطِيت هذه الخطوة منذ سنوات.
ففي الولايات المتحدة، توجد برامج متخصصة في جامعات مثل Northwestern University وBoston University لتدريس Medical Journalism، حيث يتخرج الطالب مزوّدًا بمهارات تحليل الأبحاث الطبية وكتابتها بلغةٍ مبسطة دون الإخلال بالدقة.
وفي بريطانيا، تُقدّم هيئة الـBBC برامج تدريبية بالتعاون مع مؤسسات طبية لتأهيل صحفيين علميين قادرين على التعامل مع الدراسات الإكلينيكية ومؤتمرات البحوث.
أما في فرنسا وألمانيا، فتوجد مسارات إلزامية للصحفيين تغطي مبادئ أخلاقيات النشر الطبي، وحماية خصوصية المرضى، والتوازن بين حق الجمهور في المعرفة وحق الطبيب في السمعة المهنية.
أما في كثيرٍ من دول العالم النامي، فلا يختلف المشهد كثيرًا عمّا نراه في مصر.
فحين تغيب الصحافة الطبية المتخصصة، تتكفّل العناوين المثيرة بملء الفراغ، وتسبق الأحكامُ التحقيقات.
وقد أظهرت دراسات حديثة أُجريت في إيران وبنغلاديش وعددٍ من الدول الإفريقية أنّ نسبةً معتبرة من الأخبار الصحية المنشورة تتسم بالمبالغة أو الخطأ في تفسير الحقائق الطبية، وأنّ غياب التدريب العلمي للصحفيين وضعف التعاون بين الإعلام والمؤسسات الصحية يؤديان إلى ظاهرة “التهويل الطبي”.
بل إنّ بعض التقارير وصفت الإعلام الصحي في هذه الدول بأنه “يبحث عن الصدمة لا المعلومة”، فيسعى إلى استدرار التفاعل الجماهيري بدلًا من بناء وعي مجتمعي.
في السنوات الأخيرة، تصاعدت في المشهد الإعلامي المصري موجة من “المادة الإعلامية المثيرة”، تتناول ما يُعرف إعلاميًا بـ«مسلسل الإهمال الطبي» الذي لا يكاد يخلو من عناوين صاخبة وصور مؤلمة وحكايات مأساوية تُقدَّم للمتابع في قالب درامي مشحون بالعواطف.
غير أن السؤال الجوهري يبقى: هل يؤدي هذا النمط من التناول الإعلامي إلى ترسيخ الوعي الصحي أم إلى ترسيخ الخوف وانعدام الثقة؟
والمثير أن ما يُسمّى بـ”مسلسل الإهمال الطبي” ليس ظاهرة محلية خالصة، بل انعكاسٌ لغياب الجسور بين الطب والإعلام في بيئاتٍ تُعاني ضعف التعليم والتخصص؛ حيث تتحول الأخطاء الفردية إلى عناوين جماعية، وتُدان المهنة بأكملها قبل أن تُفتح ملفات التحقيق.
الصحافة الطبية ليست نقل أخبارٍ، بل مسؤولية معرفية وإنسانية.
ونحن لا نطلب إعلامًا عسكريًّا يرافقنا في غرف العمليات، يوثّق اللحظات الفارقة بين الحياة والموت، ويشاركنا لحظات الفرح حين ينجح أحد المرضى في النجاة من حافة الهلاك، ثم يدوّن أمام الناس “بطولاتنا”.
كلّ ما نرجوه هو إعلامٌ منصف، لا يتسرّع في الاتهام ولا يستسهل الإدانة.
نريد صحافةً لا تُعلّق المشانق على الشاشات، ولا تصف الأطباء بأنهم “قتلة” أو “بلا ضمير” قبل أن تنتهي التحقيقات.
فالكلمة حين تُقال في غير موضعها قد تقتل معنويًا أكثر مما يفعله الخطأ الطبي جسديًا.
إنّ تجاوز الحدود المهنية بتحويل الأخطاء الفردية إلى “مسلسل إهمال طبي” هو جرحٌ آخر يُصيب ثقة المجتمع في منظومته الصحية، ويشوّه سمعته الدولية، ويُثقل كاهل الطبيب الشريف الذي يعمل في صمت.
إن الإعلام المهني لا يكتفي بعرض القصة، بل يلتزم بميزان العدالة بين الطرفين: المريض والطبيب، بين الألم الإنساني والحقائق العلمية.
فحين يغيب هذا التوازن، تتحول الصحافة من سلطة رقابة إلى سلطة تشهير، ومن صوتٍ للناس إلى سيفٍ على رقابهم.
وفي المقابل، لا يمكن تبرئة المجتمع الطبي من المسؤولية؛ فالمؤسسات الطبية في كثير من الدول الفقيرة — ومنها دول عربية وإفريقية — ما زالت تتعامل مع الإعلام بمنطق الدفاع لا بمنطق المشاركة.
يغيب عنها التواصل الاستباقي، وشرح القرارات الطبية بلغةٍ يفهمها الناس.
بينما في الدول المتقدمة، يُخصَّص ناطقون إعلاميون للأطباء والمستشفيات، يُدرّبون على تحويل المصطلحات الطبية المعقدة إلى رسائل واضحة ومطمئنة، فيغيب التهويل وتستقر الثقة.
إنها حالة وعيٍ جماعي يُصاغ بالكلمة، وجسرُ ثقةٍ بين المجتمع ومنظومته الصحية.
نحن بحاجة إلى صحفيين يعرفون معنى الـEBM (الطب المبني على الدليل) كما يعرفون معنى العنوان الجذّاب،
وإلى مؤسساتٍ إعلامية تُدرك أن الخبر الصحي والمعلومة الطبية ليست مجالًا للمنافسة على نسب المشاهدة.
فالصحافة الطبية ليست ساحةً للسبق، بل مرآةٌ للصدق،
ومسؤولية وطنية تمسّ حياة الناس، لا مجرّد سباقٍ على التريند.




