أهم الأخبارتقارير وحوارات

د. ماجد فياض يكتب: 8 خطوات لإصلاح منظومة التعليم الطبي في مصر

ما يحدث اليوم في ملف التعليم الطبي بمصر لا يمكن وصفه إلا بأنه “طوفان بلا مجداف”. فالتوسّع غير المدروس في إنشاء كليات الطب، وفتح أبوابها لمن يملك القدرة المالية لا لمن يملك الكفاءة العلمية، لا يُعد إصلاحًا بل إغراقًا للمهنة في دوّامة من التدهور.
هذه الورقة ليست هجومًا على الدولة، بل صرخة من داخل البيت الطبي نفسه، غايتها حماية المهنة من الانحدار، وصون سمعة الطبيب المصري — تلك السمعة التي بُنيت عبر عقودٍ طويلةٍ من العرق والتفاني والجهد — وهي اليوم مهدَّدة محليًا ودوليًا.

الأزمة لا تكمن في الأعداد وحدها، بل في منهج التفكير الذي أدار الملف. فبدلًا من معالجة النقص في أعداد الأطباء بتخطيطٍ علميٍّ متدرّج، لجأنا إلى الحل الأسهل والأخطر: زيادة المقاعد وبناء الكليات. ونسينا أن الطبيب ليس رقمًا في الإحصاء، بل أمانة في عنق الوطن. فالطبيب الكفء هو استثمار في الإنسان وأمن قومي للأمة، والطبيب الجيد يُصنع على مهل، لا يُنتج بالجملة.

تكمن جذور المشكلة في الآتي

1. توسّعٌ بلا تخطيط: إنشاء 22 كلية طب جديدة دون مستشفيات جامعية كافية أو أعضاء هيئة تدريس مقيمين.

2. غياب معايير اعتماد وطنية مُلزمة لضمان جودة المناهج والبنية التعليمية.

3. انحدار معايير القبول إلى أقل من 75% في تخصصٍ يُفترض أن يكون الأعلى انتقاءً.

4. الفساد المالي والإداري في بعض الكليات الخاصة، وبيع بعض المقاعد بالسمسرة أو مقابل العملة الصعبة.

5. انفصال التدريب السريري عن التعليم النظري بسبب غياب المستشفيات الجامعية الفاعلة.

6. انعدام الصلة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل داخل مصر وخارجها.

7. فقدان الاعتراف الدولي ببعض الكليات الجديدة، مما يهدد مستقبل خريجيها المهني.

النتيجة: تخريج أعدادٍ ضخمة من الأطباء بلا تأهيلٍ كافٍ، ولا وعيٍ مهني، ولا انتماءٍ حقيقي لروح المهنة.

علينا أن نتعلم من تجارب الدول التي حافظت على مكانتها في الطب؛ فهي لم تفعل ذلك بالكثرة، بل بالانضباط والصرامة في الجودة:

المملكة المتحدة: لا يُعتمد أي برنامج طبي إلا بترخيص المجلس الطبي العام (GMC)، الذي يراجع كل تفصيلة ويملك سلطة إيقاف أي كلية فورًا عند الإخلال بالمعايير.

الولايات المتحدة: لجنة (LCME) تشرف على كل كلية، وخريج الكلية غير المعتمدة يُمنع من التقدّم لامتحان الترخيص.

كندا وأيرلندا: تربطان القبول بعدد الأسرّة الجامعية المتاحة للتدريب السريري.

سنغافورة: ثلاث كليات فقط تخدم دولة بأكملها، لأن الجودة هناك ليست ترفًا بل شرط وجود.

ماليزيا: أغلقت بجرأة كلياتٍ لم تحقق المعايير، ودمجت طلابها في كلياتٍ معترفٍ بها.

والإصلاح الحقيقي لا يبدأ من زيادة المقاعد أو المباني، بل من بناء منظومة وطنية لضمان جودة التعليم الطبي. وتقوم هذه المنظومة على المحاور التالية:

1. تأسيس هيئة وطنية مستقلة لاعتماد كليات الطب
تُنشأ بقرار من الدولة، وتُرفع تبعيتها مباشرة إلى رئاسة مجلس الوزراء، ضمانًا لاستقلالها الكامل عن تضارب المصالح الأكاديمية أو المؤسسية.
تضم الهيئة ممثلين عن نقابة الأطباء، والمجلس الأعلى للجامعات، ووزارتي الصحة والتعليم العالي، وخبراء في ضمان الجودة والاعتماد الدولي.
تكون مسؤولة عن: مراجعة المناهج والبنية التحتية والمستشفيات الجامعية، وتقييم الأداء المهني والتعليمي لأعضاء هيئة التدريس، ومراقبة التوافق مع معايير الهيئات العالمية مثل WFME وGMC، وإصدار أو تعليق الاعتماد لأي كلية لا تلتزم بالمعايير.

2. توحيد نظام التنسيق للجامعات الطبية الحكومية والخاصة
يتم إعلان نتائج القبول في الجامعات الخاصة بعد انتهاء التنسيق الحكومي وتحت إشراف جهة وطنية مستقلة،
وذلك لضمان الشفافية الكاملة وتكافؤ الفرص بين جميع الطلاب المصريين وغير المصريين،
وحمايةً لعدالة المنافسة ومنعًا لأي تمييز قائم على القدرة المادية بدلاً من الكفاءة العلمية.

3. وقفٌ مؤقت للتوسّع في إنشاء الكليات الجديدة
حتى يُعاد تقييم القدرات الفعلية لكل كلية من حيث التدريب والكوادر والاعتماد الدولي.

4. ربط القبول بالسعة التدريبية الواقعية
لا يُقبل طالبٌ جديد إلا بوجود سريرٍ تدريبي فعلي في مستشفى جامعي معتمد.

5. مكافحة الفساد في القبول
بتجريم السمسرة والوساطة في منح المقاعد، وتفعيل الرقابة المالية والقانونية.

6. إعادة تقييم الكليات غير المعترف بها دوليًا
وفق معايير WFME وGMC، وإيقاف غير المطابقة منها لحين تصحيح أوضاعها.

7. تطبيق امتحان وطني موحّد للترخيص الطبي (National Licensing Exam)
يكون شرطًا أساسيًا لمزاولة المهنة، على غرار USMLE وPLAB،
لتوحيد معايير التقييم وضمان العدالة والكفاءة لجميع الخريجين.

8. تحسين بيئة العمل للأطباء
فالإصلاح التعليمي لا يكتمل دون إصلاحٍ مهني وإنساني يرفع كرامة الطبيب ويؤمّنه قانونيًا،
لأن الطبيب المهان لا يستطيع أن يُعلّم أو يُداوي.

في الختام لا يُقاس نجاح التعليم الطبي بعدد الخريجين، بل بعدد الأطباء القادرين على إحداث فرقٍ حقيقي في حياة الناس. فكل مقعدٍ يُمنح لطالبٍ غير مؤهل هو إهمالٌ متعمّد لمريضٍ في المستقبل، وكل كليةٍ تُفتح بلا معايير هي بوابةٌ لتصدير الجهل باسم الطب. إن بناء طبيبٍ واحدٍ كفء يحتاج إلى سنواتٍ من الرعاية والتدريب والقدوة، أما بناء مئة طبيبٍ ضعيف فيكفيه قرارٌ إداري واحد.

لسنا أمام خلافٍ حول الأرقام، بل أمام صراعٍ على هوية الطب نفسه: إمّا أن نُعيد الطب إلى مكانه الطبيعي كضميرٍ للوطن، وإمّا أن نتركه يغرق في طوفان الرداءة الذي لا ينجو منه أحد. هذه ليست معركةً بين أطباءٍ وحكومة، بل بين الضمير وغياب التخطيط، ولن نربحها إلا إذا اجتمعنا — الدولة والمهنة والمجتمع — على كلمةٍ سواء.

 

د. ماجد فياض
استشاري أول جراحة المسالك والذكورة
رئيس اللجنة العلمية لقسم المسالك بمستشفى السعودي الألماني – جدة
دكتوراه جراحة المسالك – جامعة عين شمس
زميل كلية الجراحين الملكية البريطانية (FRCS)

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى