fbpx
أهم الأخبارتقارير وحوارات

د. أحمد حسين يكتب: مش بابا كمان شهيد!.. زوايا أخرى للوجع

ضابط شرطة استشهد في إحدى العمليات الأمنية، تحكي لي شقيقته الطبيبة كم الرعاية والتقدير التي تلقاه أسرته خلال متابعة المعنيين بأسر الشهداء من وزارة الداخلية في إطار صندوق تكريم شهداء العمليات الحربية و الإرهابية و الأمنية، تختصر الطبيبة الوضع قائلة “أنا بسمعهم لما يكلموا مرات أخويا الله يرحمه، كأنهم بيكلموا رئيس الجمهورية”.

كان ذلك بمناسبة متابعتي مع الطبيبة في تخطي العقبات الحكومية للتقديم على معاش وفاة إصابية لزوجها، الطبيب الذي توفاه الله أثناء عمله في المستشفيات الحكومية لمواجهة فيروس كورونا، مات نتيجة الإصابة به، لم يعايش طفلها معاناتها في المرور على الجهات الحكومية وتعنت موظفيها في إستخراج الأوراق، كل ما شاهده الطفل مع أمه دعايا الفضائيات عما يُسمى “الجيش الأبيض” وكلمات إشادة وتقدير من بعض المسوؤلين و الإعلاميين، بعد إحدى تلك المشاهدات سأل الطفل والدته “مش بابا كمان شهيد”، لم تستطع الأم أن تجيب فهي تقدر ذكاء طفلها وتدرك أن السؤال القادم “طيب ليه مش نتعامل زي ابن خالي”.

مشهد داخلي في إحدى الغرف المظلمة لواقع أسر شهداء الفريق الطبي، و في مشهد خارجي بقاعة مجلس النواب المعفاة من فاتورة الكهرباء، يناقش النواب تعديل قانون 16 لسنة 2018 الخاص بصندوق تكريم مصابي وأسر شهداء القوات المسلحة والشرطة، ليس لضم مصابي وأسر شهداء الفريق الطبي للمخاطبين بالقانون، بل لزيادة الرسوم وفرض أخرى جديدة لموارد الصندوق، بالتأكيد حق شهداء ومصابي القوات المسلحة والشرطة أن يلقوا وأسرهم كل تقدير و رعاية.. ومن حق أيضًا والدة الطفل أن يعلمها الوطن إجابة على سؤال طفلها “مش بابا كمان شهيد”.

“مشهد داخلي في حياة طبيب عندما يمرض، وفي المشهد الخارجي وزيرة الصحة تصدر قرارها بمرور الأطقم الطبية على منازل مرضى كورونا”

“أمري لله يا دكتور، لو مش هينفع خلاص زي ما يحصل، مهو أنا فعلًا مش هقدر أتحرك”.. في أواخر الأربعينيات من عمره، طبيب تخدير في إحدى محافظات الصعيد اكتفى بالعمل في المستشفيات الحكومية ولم يسعى للعمل في القطاع الخاص، ابتلاه الله بورم خبيث في الحبل الشوكي، بعد عملية جراحية حصدت كل مدخراته قعد طريح الفراش بشلل نصفي، تدهورت حالته أكثر وأُصيب بقرح الفراش ويحضر إليه بالمنزل طبيب متطوع لتضميد وتطهير الجروح، وبعد عامين كاملين من زيارات منزلية لطبيب التأمين الصحي لتجديد الإجازة المرضية، حان الوقت لعرضه على لجنة طبية بالتأمين الصحي لتقرير العجز الكامل.. طلبات ورجاء مني و غيري للمسوؤلين، ليس في سبيل تجاوز غير قانوني أو حتى مجاملة ولكن لتنفيذ القانون بفحص تلك اللجنة للطبيب في منزله، فهو بالفعل لا يستطيع التحرك من الفراش وبزيارتي لمنزله أدركت أنه حتى درجات السلم لا يسمح إتساعها بنقل الطبيب على ناقلة الإسعاف.

مدير فرع التأمين وطبيب باللجنة موافق أيضًا على الإنتقال، إلا أن عضو اللجنة الآخر كان رده”أنا مش بروح زيارات منزلية”، وكأنه يُطلب من الإنتقال من عيادته الخاصة لا من مقر عمل حكومي هو مُلزم بتعليماته، عندما أبلغت المريض الطبيب تأكيد مدير فرع التأمين الصحي بحل المشكلة وحضور لجنة إلى منزله،كان الرد السابق “أمري لله يا دكتور، لو مش هينفع خلاص زي ما يحصل، مهو أنا فعلًا مش هقدر أتحرك”.

مشهد داخلي في حياة طبيب عندما يمرض، وفي المشهد الخارجي وزيرة الصحة تصدر قرارها بمرور الأطقم الطبية على منازل مرضى كورونا، فقط لتوعيتهم بالعلامات الحيوية وكيفية قياس نسبة الأكسجين في الدم، وهناك في بطولة العالم لكرة اليد أطقم طبية على أعلى مستوى لمتابعة الصحة العامة للاعبيين وعمل عدة مسحات يومية لهم للإطمئنان على عدم إصابتهم.

“أنت أتاكدت يا دكتور إن النقابة وقفت خلاص صرف الإعانات”، وصلني هذا السؤال على هاتفي من ممرض زوج لممرضة توفاها الله أثناء عملها بالمستشفى الحكومي لمواجهة فيروس كورونا إثر الإصابة بنفس الفيروس، سبق هذا السؤال بأسبوع اتصالي بعضو مجلس النقابة العامة للتمريض الذي أكد لي توقف النقابة عن صرف إعانة الإصابة و هي ألفي جنيه، ولكن مستمرة في صرف إعانة الوفاة وهي عشرين ألف جنيه، وبعد تواصل بعض الأسر مع عضو النقابة بناء على توصيتي، أفادهم بأنهم توقفوا عن صرف إعانات الوفاة أيضًا بناء على تعليمات الجهاز المركزي للمحاسبات!

نقلت شكوى تلك الأسر لنقيبة التمريض د.كوثر محمود و التي بالمصادفة هي نفسها رئيس الإدارة المركزية للتمريض بوزارة الصحة، فتلقيت ردًا مقتضبًا منها “ابعتلي البيانات”، بالتأكيد لم أجروء على إرسال بيانات الأسر، فمن يستخف بعقول الأخرين حتى الإدعاء بتعليمات الجهاز المركزي للمحاسبات بوقف النقابة لدعم أعضاءها و هو من أساسيات عملها، و من يطلب بيانات يستطيع- إن كان يجهلها- أن يجمعها في دقائق، من يفعل ذلك أخشى أن إهماله أو استهانته تجعله يُرسل تلك البيانات بالخطأ إلى الجهات الأمنية بدلًا من بيانات الإرهابيين، ليس لدي ما أجُيب به على سؤال زميلي الممرض،ليبقى مشهد داخلي أكثر ظلمة في ردهات أسر شهداء التمريض.. ويتبقى أيضًا المشهد الخارجي لنقيبة التمريض تشكر المسوؤلين على زيادة التمريض 300 جنيه كاملة وتكمل المشهد بعد تعيينها عضوً بمجلس الشيوخ شاكرة التمريض حسن آدائهم وإستبسالهم وبذل أرواحهم.

ليست من وحي الخيال، بل هي بعض مشاهد من مسرحية حقيقية أشاهدها كأحد الكومبارس المحتملين، ويعيشها فقط أبطالها، مسرحية بدون جمهور..أنقل تلك المشاهد القليلة للجمهور من المسوؤلين، لا لحلها فهم مختصون فقط بصنعها،و إنما لأنفض عنهم أية شبهة للجهل بها إذا حاكمهم التاريخ يومًا أو عندما يمثلوا أمام محكمة العدل الآلهية.. وأعرض تلك المشاهد للمجتمع حتى يدركوا السبب عندما تنضب مصر من الفريق الطبي، سواء هجرةً أو موتًا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى