أهم الأخبارمنتدي الدكاترة

د. ماجد فياض يكتب: انقطاع الوحي الطبي

 

في عام 1991، ومن جامعة ماكماستر الكندية، ظهر إلى العلن بوضوح مصطلح ومفهوم الطب المستند إلى البراهين بصيغته الحديثة، قبل أن يترسّخ عالميًا مع نشر تعريفه الكلاسيكي عام 1996. ويُقصد به الاستخدام الواعي والمنهجي لأفضل الأدلة البحثية المتاحة، المستمدة من الدراسات الإكلينيكية عالية الجودة، عند اتخاذ القرار الطبي، مع دمج هذه الأدلة بخبرة الطبيب ومراعاة القيم والتفضيلات الفردية للمريض.

لم يكن هذا التحول انقلابًا على الطب، بل أكبر عملية تصحيح لمساره؛ نقلته من الانطباع والتجربة الفردية إلى قرار عقلاني يستند إلى ما ثبت نفعه بالفعل، لا إلى ما يبدو مقنعًا أو مألوفًا.

عُرِفَ الطِّبُّ، عبرَ قرونٍ طويلةٍ، بوصفِهِ حِرْفَةً تقومُ على الخبرةِ الشخصيّة، وعلى ما يراه الطبيب ويجربه ثم يورثه لمن بعده. كانت المعرفة الطبية أقرب إلى سِيَرٍ ذاتية فردية منها إلى علم مشترك، وكان “ما نجح معي” هو الحجة العليا التي لا تُجادل، حتى إن الخطأ كان يُعاد إنتاجه بالثقة نفسها التي يُعاد بها الصواب.

ومع مطلع القرن السابع عشر، بدأ هذا المسار يهتز حين نشر فرنسيس بيكون عام 1620 كتابه Novum Organum، واضعًا الأسس الفلسفية للمنهج العلمي القائم على الملاحظة والتجربة والاستقراء، بدلًا من الارتهان لسلطة النصوص والقياس العقلي المجرّد. أعلن بيكون أن المعرفة لا تُستمد من التأمل وحده، وأن العقل إذا تُرك بلا تجربة يُنتج أوهامًا منظَّمة، ففتح الباب لتحرر العلم من يقينه الزائف.

لم يلبث هذا التصور أن وجد تجسيده العملي مع جاليليو، الذي جمع بين الملاحظة الدقيقة والتجربة والقياس، قبل أن يكتمل البناء النظري للعلم الحديث مع نيوتن.

أما الطب، فكان أبطأ في استيعاب هذا التحول بحكم تعقيد الجسد البشري وحساسية التدخل فيه، لكنه بدأ يتحرر من سلطان التلقين مع ويليام هارفي واكتشافه للدورة الدموية بالتجربة لا بالموروث، ثم واصل طريقه عبر علم الأمراض والإحصاء الطبي والتجارب الإكلينيكية، ليدخل عصر التجربة المنضبطة، حيث يُختبر العلاج وتُقارن النتائج وتُكتشف الأخطاء بدل أن تُقدّس.

وجاء عام 1665 ليشكّل نقطة فاصلة في تاريخ المعرفة، مع ولادة الدورية العلمية المحكمة، وبداية النشر البحثي المنهجي. منذ ذلك الحين، لم يعد الادعاء معرفةً إلا إذا كُتب ونُشر وخضع لنقد المجتمع العلمي. هنا تحوّل العلم من تجربة شخصية مغلقة إلى معرفة علنية مشتركة. ومع النصف الثاني من القرن السابع عشر، بدأ الطب يشق طريقه إلى المجلات العلمية، ولم يعد رواية طبيب، بل حوارًا مفتوحًا داخل مجتمع علمي.

ومنذ تلك اللحظة، لم يعد الطب لهجة محلية ولا تراثًا شفهيًا، بل لغة إنسانية عالمية واحدة. البحث الذي يُنشر في اليابان يُراجع في الهند، وقد يُبنى عليه قرار علاجي في لندن أو القاهرة دون اعتبار لجنسيته أو ثقافته. آلام الصدر لا تتكلم لغة، والبكتيريا لا تعترف بالحدود، والجسم البشري لا يغيّر قوانينه بتغيّر الجغرافيا.

تختلف أنظمة الشرطة في أساليبها في كل البلاد، تتباين القوانين والعادات، لكن يبقي الطب وحده خبرة إنسانية عالمية مشتركة، تراكمت عبر الحدود وتوحّدت بالبرهان، وأي محاولة لاختراع “طب محلي” معزول عن هذا السياق العالمي ليست استقلالًا معرفيًا، بل عزلة خطِرة تُدفع فاتورتها من صحة البشر.

وهكذا وصلت الممارسة الطبية إلى مسارها الطبيعي فيما نعرفه اليوم بالطب المستند إلى البراهين: أعلى محاولة إنسانية لضبط القرار الطبي بالعقل والبيانات، لا بالحدس والانطباع. هنا لم يُلغِ العلم دور الطبيب، لكنه أنهى زمن العصمة، ووضع المعرفة في موضعها الصحيح: معرفة تُبنى، لا تُروى. في هذا الزمن، لم تعد المعرفة تُلقى إلقاءً، بل تُختبر وتُمحّص وتمر عبر العقول قبل الألسنة، ولم يعد مقبولًا أن تُنشأ “نظريات طبية” خارج كل ما راكمه العلم.

وقد يتساءل البعض: هل الطب المستند إلى البراهين قيدٌ على الإبداع؟
والحقيقة أنه الإطار الذي يحمي الإبداع من السقوط في الوهم. هو ثمرة مسار طويل من المحاولات الفاشلة بقدر ما هو حصيلة النجاحات، واستجابة مؤلمة لإدراك أن كثيرًا مما مورس بثقة كان في حقيقته عديم الجدوى أو مؤذيًا. هو سؤال دائم: هل ما نفعله مفيد حقًا؟ لا كما نعتقد، ولا كما نرغب، بل كما تُظهر البيانات. لا يلغي خبرة الطبيب، ولا يحتقر الحدس، لكنه يرفض أن يتحول الحدس إلى عقيدة.

الإبداع الحقيقي في الطب لا يولد من نسف العلم، بل من الاشتباك العميق معه. كل تقدم طبي حقيقي كان سؤالًا ذكيًا طُرح من داخل المنظومة، لا قفزة في الفراغ خارجها. أما أسطورة “المنقذ الوحيد” الذي يهدم كل ما سبق بدعوى الإلهام، فليست ثورة معرفية، بل وهم قديم بثوب جديد.

انقطاع الوحي الطبي ليس حدثًا تاريخيًا، بل ضرورة عقلية. فالعلم لا يُوحى، بل يُبنى، حجرًا فوق حجر. ومن ينتظر الإلهام بلا برهان لا يسيء إلى الطب وحده، بل يخذل المرضى قبل الجميع. وبين طبيب يعمل داخل العلم، متواضعًا أمام شكوكه، وآخر يقف خارجه مدعيًا امتلاك الحقيقة، مسافة لا تُقاس بالمعرفة، بل بالأمانة. وهنا، وبوضوح لا يحتمل التأويل، نقول: لقد انقطع الوحي الطبي.

د. ماجد فياض

استشارى جراحات الكلى والمسالك البولية بالمستشفى السعودي الألماني بجدة

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى