د. ماجد فياض يكتب: متى يتوقّف “طوفان الأطباء”؟

على مدار الأيام الماضية، عشتُ مع أحد الأصدقاء تفاصيل تجربته في محاولة إلحاق ابنته بكلية الطب، من خلال الجامعات الخاصة والأهلية في مصر.
كنت أظنّني مطّلعًا على المشهد، لكن ما رأيته صَدمني: مافيا كاملة من السماسرة، والرشاوى، وتفاوتٌ مذهل في المصروفات الدراسية.
مقاعد تُحجز بالدولار، وكأن الطب أصبح مشروعًا استثماريًا لا مهنة إنسانية.
فالدولة تفتح 22 كلية طب جديدة بلا مستشفيات جامعية حقيقية، وبلا معامل كافية، وبلا أعضاء هيئة تدريس مقيمين،
ليس كل ما يُقدَّم كحلٍّ هو كذلك؛ فبعض ما يُروَّج كدواءٍ لا يكون إلا بداية المرض.
وهكذا يبدو قرار الدولة المفاجئ بمضاعفة أعداد المقبولين في كليات الطب إلى نحو ثلاثين ألف طالب، وكأننا نحارب نقص الأطباء بفيضٍ من غير الأطباء.
إنها ليست زيادة في العدد، بل زيادة في الجهل والغرور.
فالدولة تفتح 22 كلية طب جديدة بلا مستشفيات جامعية حقيقية، وبلا معامل كافية، وبلا أعضاء هيئة تدريس مقيمين، ثم تُريح ضميرها بندب الأساتذة من الجامعات القديمة، وكأن تدريب الطبيب يمكن أن يتم عبر “الزوم” أو بخطاب تكليف!
لكن الكارثة الحقيقية ليست في المباني، بل في العقول التي سُمِح لها بالدخول.
حين يُقبَل طالب في كلية طب بمجموع 74%، فقد انتقلنا من أزمة التعليم إلى أزمة الضمير.
هل هذا الشاب مؤهَّل نفسيًا وعلميًا لحمل سماعةٍ تُقرّب وجهه من أنين مريض؟
هل أعددناه ليتخذ قرارًا بين الحياة والموت؟
هل ندرك خطورة أن نُخرّج طبيبًا بلا تدريب كافٍ ولا أساس علمي؟
لم يعد الفساد مقتصرًا على الجامعات الخاصة، بل تسرّب أيضًا إلى بعض أروقة الجامعات الحكومية التي كانت يومًا رمزًا للعدالة العلمية.
اليوم، إذا كنتَ أجنبيًّا تحمل جوازًا غير مصري وتدفع بالدولار، فلا تقلق من مجموعك المتواضع… فالأبواب مفتوحة والمقاعد محفوظة.
بضع أوراق، وحساب بنكي عامر بالعملة الصعبة، كفيلة بأن تضعك في مدرجات قصر العيني أو طب عين شمس، بينما طالبٌ تفوّق بجدارة يقف خارج الأسوار يراقب حلمه يُباع بالدولار.
لقد أصبحنا أمام مشهدٍ عبثي: جامعات الدولة التي بُنيت بأموال الفقراء تُمنح مقاعدها لمن يملك لا لمن يستحق.
تآكلت فكرة تكافؤ الفرص، وصار العلم امتيازًا اقتصاديًا لا استحقاقًا علميًا.
ولم يعد الطب مهنةً لخدمة الناس، بل تجارةً تُدار بمنطق العرض والطلب.
ما يحدث الآن لا علاقة له بالإصلاح ولا بحل أزمة الهجرة؛ فالطبيب لا يهاجر لأنه بلا مقعد في الجامعة، بل لأنه بلا كرامة في وطنه.
يهاجر لأنه يعلم، أكثر من غيره، أن مناخًا بلا إمكانيات ولا تقدير ولا حماية قانونية لا يصلح لمهنةٍ تُقدِّم حياتها قربانًا كل يوم.
خريجو هذه الكليات الجديدة لن يُقبلوا، لا في أوروبا، ولا الخليج، ولا حتى عند أول معبرٍ للعلم الحقيقي.
ثم ننسى — أو نتناسى — أن الطبيب الذي يتخرج من كلية غير معترف بها عالميًا لن يُسمح له حتى بطرق أبواب الهجرة مستقبلًا.
فالمجالس الطبية الدولية — مثل WFME وUSMLE وGMC — لا تعترف بالشعارات، ولا تجامل التساهل المصري المزمن.
خريجو هذه الكليات الجديدة لن يُقبلوا، لا في أوروبا، ولا الخليج، ولا حتى عند أول معبرٍ للعلم الحقيقي.
فماذا فعلنا إذن؟
أغلقنا الباب على الأكفاء، وفتحناه على مصراعيه لمن لا يُجيد إلا عبور الامتحانات الضعيفة.
وبعد سنوات، سنجد بيننا آلافًا يحملون لقب “طبيب”… لكنهم لا يعرفون عن الطب إلا قشره.
سيضيع المريض، وتضيع معه سمعة الطبيب المصري التي بُنيت بدموعٍ وجلَد أجيال.
حين ننظر حولنا، ندرك أن العالم لم يترك تعليم الطب فوضى مفتوحة، بل نظّمه بصرامةٍ تحمي المريض أولًا وتحفظ للمهنة هيبتها.
في المملكة المتحدة، لا يمكن لأي كلية طب أن تستقبل طالبًا واحدًا دون اعتمادٍ مسبق من المجلس الطبي العام (GMC)، الذي يُراجع المناهج والمستشفيات الجامعية سنويًا، ويملك صلاحية إيقاف أي برنامجٍ لا يرقى للمعايير.
الجودة هناك ليست ترفًا… بل شرط الوجود ذاته.
وفي الولايات المتحدة، لا تُنشأ كلية طب إلا بعد اعتماد اللجنة المشتركة للتعليم الطبي (LCME)، التي تُعيد التقييم كل ثماني سنوات بزيارات ميدانية ومقابلات مع الطلاب والأساتذة.
فخريج الكلية غير المعتمدة لا يُسمح له حتى بخوض امتحان الترخيص الأمريكي (USMLE).
القانون هناك لا يحمي الطبيب… بل يحمي المريض من الطبيب غير المؤهل.
أما في سنغافورة، الدولة الصغيرة التي تنافس كبار العالم في الكفاءة، فلا تتجاوز كليات الطب ثلاثًا فقط رغم الحاجة المتزايدة للأطباء.
الأعداد تُحدَّد بدقة وفق خطط وطنية تمتد لعشر سنوات، بحيث يتوازن التعليم مع الخدمة الصحية.
ففتح مقعدٍ جديد هناك ليس قرارًا إداريًا، بل ضرورة وطنية تُناقَش بالأرقام والحقائق.
وفي السويد، التعليم الطبي مجاني تمامًا، لكنه محدود الأعداد، ولا تُزاد مقاعده إلا بقرارٍ من البرلمان بعد مراجعة وطنية للاحتياجات الفعلية.
لكل طالبٍ مقعدٌ في مستشفى جامعي يضمن له تدريبًا سريريًا حقيقيًا، لأن الطبيب عندهم لا يُخرَّج على الورق، بل في قلب الممارسة.
وفي كندا، لا يُسمح بإنشاء كلية طب جديدة إلا بعد خطة وطنية تمتد لسنوات تُحدَّد فيها الحاجة الفعلية، وعدد أعضاء هيئة التدريس، والمستشفيات التعليمية القادرة على استيعاب التدريب السريري.
وفي أيرلندا، يُربط عدد المقبولين في كل كلية بعدد الأسرّة المتاحة في المستشفيات الجامعية، ضمانًا لأن يتلقى كل طالب تدريبًا عمليًا حقيقيًا.
أما ماليزيا، فقد أغلقت الحكومة بنفسها عدّة كليات طب بعد فشلها في تحقيق معايير الاعتماد الدولي، وأعادت دمج طلابها في كلياتٍ أخرى ذات كفاءة.
كل هذه النماذج تُثبت أن الإصلاح لا يبدأ بالبناء، بل بالتخطيط.
فالكليات الطبية ليست أبنيةً من الخرسانة، بل منظومات من العقول والمناهج والضمائر.
ومن لا يُدرك هذه الحقيقة يُنشئ مباني تحمل لافتة “كلية طب”، لكنها تفتقر إلى جوهر الطب ذاته.
إننا لا نحتاج إلى كلياتٍ جديدة… بل إلى إرادةٍ جديدة.
الحل ليس في زيادة المقاعد، بل في احترام عقل الطبيب وكرامة المريض.
في تطوير كلياتنا القائمة، لا في بناء صناديق من الأسمنت نُسميها كليات.
في وضع امتحان ترخيص وطني صارم لا ينجح فيه إلا من يستحق، أيًّا كانت كليته.
في إعادة الهيبة للطبيب، لا في الزجّ به في طوفانٍ لا يملك فيه مجدافًا.
لقد أُبلِغت الرسالة… وقلت ما في قلبي،
لا دفاعًا عن مهنةٍ فقط، بل عن وطن.
فما يُرتكب الآن ليس قرارًا إداريًا، بل خطيئةً وطنية ستأكل ثمارها المُرّة أجيالٌ قادمة.
اللهم فاشهد.
د.ماجد فياض
دكتوراه جراحة المسالك البولية جامعة عين شمس
الزمالة البريطانية في المسالك البولية