د. ماجد فياض يكتب: الأخلاقيات في عالم الفيديوهات
كنت قد كتبت قصصًا قصيرة ساخرة تُعالج مواضيع حياتية يومية من العيادة الطبية وتلقيت حينها بعض الإنتقادات من قِبل بعض القراء الذين اتهموني بانتهاك خصوصية المرضي
لم أجد لها تفسيرا وقتها سوي أن هناك من يجد صعوبة في تقبل فكرة أن يكون مادة للحكاية، و لا يتقبلون أن يكونوا مجرد طرفا في قصة خيالية رغم أنها كانت عملا أدبيا محضا, ولم تتناول أي موضوعات حساسة أو تمس خصوصية الأشخاص، لكنهم في نفس الوقت يضحكون ملء أفواههم حين يسخر الطبيب من نفسه وقلة حيلته مثلما حدث مؤخرا في مسلسل بالطو.
وهو ما دعاني للبحث عن القوانين المهنية والمجتمعية في مصر التي تنظم النشر في الإعلام الرقمي الحديث، فوجدت أنها غير واضحة في تحديد ذلك الخط الفاصل في تعريف وتوضيح الانتهاكات، ليظل الصراع قويا عند بعض الأطباء بين الإغراء في التعبير والنشر أو حتي بين الشهرة، وبين صوت الضمير المهني.
لكن هل أصبح التفاعل الإجتماعي عبر الفيديوهات أكثر قيمة من الإلتزام بقيم الأخلاق المهنية الطبية والضمير الشخصي؟
إذ ينبغي علي الأطباء ألا يقعوا في فخ سهولة نشر ( فيديو) مثلما فعلت طبيبة كفر الدوار لأننا وباقي الناس لسنا سواء، ولسنا علي صعيد واحد ولا أحد غيرنا يحمل بداخلة تكلفة باهظة للحفاظ علي الأسرار المهنية وحتي لا نقلب موازين العلاقة – المضطربة أصلا- بين الطبيب والمريض في مصر.
قد يعتقد البعض أن “التوعية” هي الهدف الأسمى، لكن هل التوعية تتطلب نشر الفيديوهات التي تظهر حياة الناس الخاصة في صورة مشوهة؟
هذا التساؤل يظل مفتوحًا، ومعه تتعدد ردود الأفعال بين المبررات والمخاوف، لكن ما يجب أن يدركه الجميع هو أن التوعية يجب أن تكون حاملة لرسائل علمية منضبطة، بعيدة عن التسلية والدراما، وألا تصدم المجتمع بشكل مباشر مثلما فعلت.
أما فيما يخص المحتوي نفسه ولأني متخصص في طب المسالك البولية وأمراض الذكورة فقد لاحظت بالفعل
زيادة في معدل الأمراض الجنسية مؤخرا وهو ما دعاني للبحث والاستقصاء، فوجدت أن تقارير ودراسات لمنظمة الصحة العالمية تقول أن هناك زيادة في الأمراض الجنسية عالميًا بنسبة تصل إلى 30% في السنوات الأخيرة، وهناك أكثر من مليون حالة جديدة من هذه الأمراض يوميًا على مستوى العالم، وأرجعت ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها التغيرات في السلوكيات الإجتماعية، انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات المخصصة للمواعدة و التعارف التي سهّلت التواصل بين الأفراد، مما زاد من عدد العلاقات العابرة وغير الآمنة، انخفاض مستوى الوعي والثقافة الصحية حول الأمراض الجنسية وطرق الوقاية منها، خاصة بين الفئات الشابة، التحديات الاقتصادية العالمية وانشغال الأنظمة الصحية بقضايا أخري ملحة، مثل جائحة كوفيد-19، التي قلصت موارد التوعية والعلاج، مما أدى إلى تفاقم المشكلة.
أما فيما يتعلق بانتشار العلاقات خارج الزواج والخيانة الزوجية في مصر فعند البحث والاستقصاء لاحظت غياب إحصاءات رسمية دقيقة حول هذا الموضوع ، لكن هناك تقارير ودراسات تقول أن المعدل قد ازداد بالفعل وقد نشرت صحيفة المصري اليوم في يوم ٧ ديسمبر 2023 دراسة قالت أنها الأولي من نوعها في مصر عن انتشار الأمراض المنقولة جنسيًا في السيدات الحوامل.
وفي دراسة عن انتشار الأمراض المنقولة جنسيًا في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نُشرت في مجلة BMC Infectious Diseases في عام 2022، وُجد ارتفاع في معدل الإصابةو هناك بعض الدراسات الإجتماعية في مصر التي تُظهر أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ساعدت على خلق قنوات جديدة للتواصل خارج الزواج، خصوصًا أن منصات مثل فيسبوك وإنستغرام وتيك توك أصبحت وسيلة للتفاعل بين الأشخاص من مختلف الفئات والأعمار، حيث يزيد استخدامها لأغراض ترفيهية أو للتعارف.
وفيما يميز أسباب الزيادة في الحالة المصرية هو زيادة الخوف من الوصم والعار المجتمعي، فهناك دراسة حول وصمة العار وتأثيرها على الصحة العامة أجرتها جامعة هارفارد في عام 2021 حول الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالأمراض المنقولة جنسيًا، أشارت إلى أن الخوف من الكشف عن العدوى يدفع المرضى للإبتعاد عن طلب الرعاية يؤدي إلى زيادة الحالات غير المعالجة، إضافة إلى غياب التثقيف الصحي، ففي دراسة تناولت تأثير التثقيف الصحي على معدلات الإصابة نُشرت في The Lancet عام 2018 أن برامج التثقيف الصحي المكثفة خاصة تلك التي تستهدف الشباب، تقلل من معدلات الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيًا بنسبة تصل إلى 50%، كم أن ارتفاع الضغوط الإجتماعية والإقتصادية التي قد تؤدي إلى زيادة في مثل هذه السلوكيات في مصر.
وفي رأيي الشخصي يمكن إضافة أسباب أخري مثل غياب الوازع الديني وتراجع دور الخطاب الديني الرسمي والدعوي ، وتراجع دور الأسرة في التوجيه والإرشاد والاحتواء.
تظل المشكلة الكبري في رأيي أن وسائل التواصل الإجتماعي والإعلام الحديث لم تسهم بشكل مباشر وراء انتشار الأمراض الجنسية وارتفاع حالات الطلاق فقط، بل أفسدت القيم الإنسانية بشكل عام، إذ تعتمد في جوهرها أن تلهث وراء كل مثير وتعتمد على تضخيم الأحداث أو التركيز على الجوانب المثيرة للجدل، من أجل التفاعل والمزيد من المشاهدات مما أدى إلى تهميش ،وتراجع القيم الإنسانية.
وأصبحت الشهرة لدي البعض قيمة في حد ذاتها وهدف سامي يسعى إليها الكثيرون، هذا التوجه يدق ناقوس الخطر ويثير تساؤلات حول دور الدولة ومنظمات الإعلام والمجتمع كله لإعادة النظر في أخلاقيات الإعلام بكل أنواعه في مصر حتي نري إعلاما مسؤولا يوازن بين إرضاء الجمهور والحفاظ على القيم الإنسانية.
د. ماجد فياض
استشارى جراحة الكلى والمسالك البولية
المستشفى السعودى الألمانى بجدة