أهم الأخبارمنتدي الدكاترة

د. أسامه حمدي يكتب: فتاوي التغذية لكل من هب ودب!

ينفق المعهد القومى للصحة بالولايات المتحدة NIH نحو ١،٩ مليار دولار سنويًا على أبحاث التغذية. وعلى مدار السنوات الخمس الماضية، نٌشر ١٣٠٠ بحث علمي دقيق عن التغذية في كبرى الدورات العلمية المتخصصة.

مجال التغذية في مصر أصبح مفتوحًا لكل دجال أو محتال

وللبحث العلمي في التغذية شروط أكاديمية دقيقة جدًا وشديدة التعقيد، ويحتاج كل بحث لمراجعة متعمقه قبل النشر والتطبيق، فالغذاء إما دواء شافي، أو سم يقتل ببطئ، كما أن الأمراض المرتبطة بسوء التغذية تكلف الولايات المتحدة حوالي تريليون دولار سنويًا!.

وتضم الأكاديمية الأمريكية للتغذية وعلوم الغذاء- والتي منحتني مشكورة جائزتها الفخرية في عام ٢٠٢١- ١١٢ ألف متخصص في علوم التغذية. ولكن مع عميق الأسف في مجتمع تفشى فيه الجهل الصحي، أصبح مجال التغذية في مصر مفتوحًا لكل دجال أو محتال ليدلو بدلوه، فيكفي أن يُلحِّن قوله، مع جرعة زائدة من الثقة بالنفس، ليُقُنِع مستمعيه المغيبين بأنه يملك في يديه سر علاج جميع الأمراض، وأنه اكتشف بين عشية وضحاها، وبدون أدنى قراءة، أو علم، أو بحث، نظرية أينشتاين في النسبية، والتي غيرت وجه العالم!.

هناك غياب شبه تام لمؤسسات الصحة والجامعات عن مراقبة هذا السم الفتاك

هكذا كان كل الدجالين في قرى مصر في عصر الظلام وغياهب الجهل. للأسف أرى الآن أننا عدنا ثانية، وبخطى ثابتة، إلى هذا العصر، في غياب شبه تام لمؤسسات الصحة والجامعات عن مراقبة هذا السم الفتاك، والدجل القاتل. لقد أصبح مجال التغذية ساحة مفتوحة للعبث المفرط وبيع الوهم، فوداعًا للبحث العلمي بمقاييسه المعتمدة، ووداعًا للعلم بكامله، ومرحبًا بالخرافات ما دام الجهلة يصدقونها.

أنا فعلًا حزين ومصدوم من الفيديوهات والبرامج المفتوحة على مصراعيها لهؤلاء المدعين على الساحة الصحية في مصر، والتي يستمع إليها- مع الأسف- وربما قد يصدقها، ويتداولها بشراهة بعض المتعلمين.

المحزن والمؤسف أن بعض هؤلاء الدجالين أساتذة في الجامعات المصرية، من الذين تحولوا بقدرة قادر إلى علم التغذية، ونزل عليهم وحيه وهم نائمون، فقاموا يبشرون البشر بدين غذائي جديد. والحاوي يمد يده في كيس الطعام ويخرجه بفتوى من مخيلته فيمنع ذلك، ويسمح بذاك، ويدعي قدرته على إبراء الأكمه والأبرص، وشفاء السكر من النوع الأول، وأمراض المناعة كلها، والسرطان، وأمراض الجهاز الهضمي، والأعصاب، والعضلات، وكل ما استعصى علاجه، مع كلمتين بالإنجليزية لزوم الوجاهة الطبية! مثله مثل دجال المنصورة في الستينات وهو يعتلي كرسي في ميدان الطميهي، ليبيع ماء معكرًا في زجاجات وهو يصرخ “معايا شربة الحاج محمود اللي تطلع الدود” وتشفي جميع الأمراض!.

يضرب كل دجال منهم بمئات الأبحاث الجادة في علم التغذية عرض الحائط، فلا داعي عنده للبحث أو الدراسة؛ فتجاربه كلها على مرضاه في دكانه الخاص، وكأنهم حيوانات تجارب، يعيش منهم من يعيش، ويموت من يموت، المهم أن يصل رأيه الأحادي، وأفكاره الشاذة التي جاءته في أحلامه، لينفذها صباحًا على مرضاه المتعلقين بقشة. وفي ظل حالة من الذهان المجتمعي الشامل، أصبح كل ما هو سمك، لبن، تمر هندي مستساغ الطعم، ما دمت قد اشتريت الوهم، وجئت بأقدامك إلى ميدان الحاوي، وخطوت إلى دكان المحتال المسمى عيادة خاصة. والدجال ما عليه سوى أن يذكر بعض الآيات البينات، وبعض الأحاديث، ويربطها باكتشافاته الجهنمية لتنحني الرؤوس فورًا مقتنعة ومسلَّمة بما يهذي به في مجتمع متدين بطبعه، ما زال أغلبه يعيشون في عالم الدراويش.

جاءتني عشرات الرسائل تحمل فيديوهات غريبة لدجالين اليوتيوب والسوشيال ميديا، مع لقاءات مطولة معهم أجراها نجوم الإعلام، وتطلب مني التعليق عليها، وتفنيد الذي قالوه من مهاترات غذائية، وبالطبع لن أستطيع؛ فالموضوع يحتاج فعلًا إلى فتح العشرات من المصحات العقلية والنفسية على أرض مصر لعلاج هؤلاء، وأسوؤهم من هو مقتنع أصلًا بما يدعيه. لك الله يا بلادي فيما فعل ويفعل السفهاء فيك!.

د. أسامة حمدي

أستاذ أمراض السكر بجامعة هارفارد

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى