fbpx
أهم الأخبارابحاث و دراساتتقارير وحوارات

تطوير لقاح يمكن أن يغير عالم الطب لعلاج الملاريا

 

يعد مرض الملاريا من أقدم الأمراض التي ابتلي بها البشر على الإطلاق، وتشير تقديرات إلى أن هذا المرض تسبب في نصف الوفيات تقريبا منذ العصر الحجري. وحتى اليوم لا تزال الملاريا تحصد أرواح أكثر من 400 ألف شخص سنويا، ومعظمهم في أفريقيا، حيث يموت طفل كل دقيقتين تأثرا بالمرض.

وكشف تقرير هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” اليوم السبت، أن الآمال معلقة الآن على أول لقاح للملاريا طورته شركة “غلاكسو سميث كلاين” بدعم من مؤسسة “بيل وميليندا غيتس”، ومنظمة الصحة العالمية والتحالف العالمي للقاحات. واستغرقت أبحاث اللقاح 32 عاما وتجاوزت تكلفته 700 مليون دولار.

وأثبتت التجارب أن هذا اللقاح فعال بنسبة 40 في المئة في الوقاية من المرض لمدة أربع سنوات، أي بنفس فعالية لقاح الإنفلونزا تقريبا. ورغم ذلك، فقد يكون هذا هو أبرز انتصار نحققه في معركتنا مع الملاريا منذ عقود عدة، فقد ينقذ هذا اللقاح آلاف الأرواح ويخفف أعباء المرض الاجتماعية والاقتصادية.

ونقلت “بي بي سي” عن أنتوني نسياه-أساري، المدير العام للخدمات الصحية في غانا: “لقد رأينا كيف نجحت بعض القارات في القضاء على المرض، وقد أنعش هذا اللقاح الآمال في استئصاله في أفريقيا”.

ويسبب داء الملاريا كائن طفيلي أحادي الخلية يسمى بلازموديوم أو المتصورة، الذي يقتات على النسيج البشري. وهناك خمسة أنواع مختلفة من الملاريا تصيب البشر، أكثرها فتكا المتصورة المنجلية. وينشر طفيليات البلازموديوم نوع من البعوض يسمى الأنوفيليس، الذي ينقل الدم المصاب بين الأشخاص لدى لدغهم.

ويتكاثر هذا البعوض في البيئات الدافئة مع وجود برك المياه والكثير من الدماء البشرية ليتغذى عليها البعوض الناضج. وقد تموت اليرقات قبل أن تصل إلى مرحلة النضوح في حالة غياب الماء.

وكانت المستنقعات المحيطة بروما مرتعا للبعوض، وتسبب وباء الملاريا في حالات الإجهاض وأودى بحياة الأطفال والكبار على السواء، ويرى بعض المؤرخين أنه كان السبب في انهيار الإمبراطورية الرومانية.

لكن المناطق الباردة لم تكن بمنأى دائما عن المرض، إذ انتشرت الملاريا في جنوب بريطانيا لقرون وحصدت أرواح الآلاف، لكن كان يتم الربط بينها وبين الهواء الفاسد المنبعث من المستنقعات.

لكن طبيبا عسكريا كان يعيش في الهند أثبت في التسعينيات من القرن السابع العشر بعد تشريح بعوضة أن المرض سببه طفيلي تنقله الحشرات. وقد نجحت الدول الأوروبية وغيرها من الدول الغنية في القضاء على المرض بتغييرات بيئية، مثل تجفيف المستنقعات وتنظيف الأزقة وغيرها من الأماكن التي يتكاثر فيها البعوض، ورش المبيدات والزيوت على أسطح المياه الراكدة.

لكن الوباء أثبت أنه أكثر ترسخا في البلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، حيث تطور للمرة الأولى. إذ يقال إن الملاريا تحول إلى وباء للمرة الأولى في هذه البلدان منذ نحو 4,000 أو 5,000 عام مع بداية اعتمادها على الزراعة. ووردت الملاريا في المخطوطات السومارية والمصرية القديمة.

وطورت أجسام المصابين على مدى أجيال، أساليب جديدة لمقاومة طفيلي بلازموديوم، منها تغيير شكل الهيموغلوبين الناقل للأكسجين في الدم. إذ لوحظ أن مرض فقر الدم المنجلي وأنيميا البحر المتوسط أكثر انتشارا بين الأشخاص المعرضين للإصابة بالمرض، وهذان المرضان يقيان من الإصابة بالملاريا القاتلة.

وفي المقابل، أثبتت طفيليات البلازموديوم كفاءة في مراوغة الجهاز المناعي. فهذه الكائنات لديها قدرة فائقة على التكيف، ولهذا بمجرد ما يبدأ النظام المناعي في التعرف عليها ومهاجمة الجزيئات التي تنتجها (المستضدات التي تولد أجسام مضادة)، ينتج الطفيلي مستضدات مختلفة للإفلات من الجهاز المناعي.

لكن دورة حياة البلازموديوم المعقدة هي أكثر الوسائل الدفاعية فعالية، إذ يتخذ خلالها أشكالا مختلفة داخل أجسامنا، وفي كل مرة ينتج مستضدات جديدة لإرباك جهازنا المناعي.

وتنقل البعوضة الحاملة للمرض في كل مرة تلدغ فيها شخصا، 100 طفيلي إلى دمه، وتدور هذه الطفيليات في مجرى الدم لمدة 30 دقيقة، بعدها تنتقل إلى الكبد، حيث تختبئ في خلاياه، ثم تتكاثر على مدى سبعة إلى عشرة أيام، وتتخذ صورة “أقسومة” وتخرج من خلايا الكبد في أكياس واقية للهرب من الجهاز المناعي. وعندما تصل إلى مجرى الدم تتحلل الأكياس وتتضاعف أعداد الطفيليات سريعا وتهاجم كريات الدم الحمراء وتتلفها.

وعند هذه المرحلة يعاني المصاب من الحمى. ثم تنتقل الطفيليات إلى بعوضة جديدة عن طريق لدغ المصاب، وتتلقح في بطنها وتنتقل إلى شخص آخر.

وعندما تتخذ الطفيليات صورة أقسومة، تكون أكثر فتكا، وتتغير سريعا، وتطلق مستضدات عديدة ومختلفة تفوق قدرة الجهاز المناعي على الاستجابة لها.

ولكي يتمكن الجسم من التصدي للإصابة الجديدة، يجب أن يطلق استجابة مناعية خاصة لكل سلالة طفيليات تنتقل عبر لدغة البعوضة ولكل نوع من المستضدات التي تنتجها. ولا يكتسب الجسم مناعة ضد المرض إلا من خلال التعرض لأنواع عديدة من سلالات الطفيليات.

ويبدو أن الصغار تحديدا أقل قدرة على اكتساب المناعة ضد الملاريا، كما يظل كل شخص لم يصب من قبل بسلالة الطفيليات التي تستوطن المنطقة أكثر عرضة للإصابة بالمرض.

ووصلت الملاريا إلى الأمريكتين أثناء نقل العبيد من غرب أفريقيا، وكان السكان الأصليون يعالجون الحمى بلحاء شجرة الكينا. وفي منتصف القرن التاسع عشر، استخدم الأوروبيون في غرب أفريقيا الكينين، المستخرج من لحاء الشجرة، لعلاج الملاريا، وانخفضت معدلات الوفيات بأكثر من 75 في المئة.

وفي القرن العشرين، أثبت عقار كلوروكين فعالية في علاج الملاريا والوقاية منها عند استخدامه جنبا إلى جنب مع المبيدات الحشرية مثل “دي دي تي”. وتضاءلت معدلات الوفيات بشدة، وتخلصت بلدان بأكملها من المرض، فيما بدا وكأن العالم أصبح قاب قوسين أو أدنى من استئصال الملاريا.

لكن بعد عقود تطورت سلالات جديدة من طفيليات الملاريا مقاومة لعقار الكلوروكين، و”دي دي تي”، وغيرها. وبعد حظر استخدام “دي دي تي”، بسبب أثاره على البيئة والصحة، أصبحت المناطق المدارية موبوءة بالبعوض.

صحيح أن معدلات الوفيات انخفضت، لكن بعض العقاقير الجديدة، مثل “أرتميسينين”، الذي كان الغرض منه إضعاف مقاومة الطفيليات للعقاقير، حولت الملاريا إلى مرض مزمن وليس قاتلا.

وانخفض سقف التوقعات إلى التحكم في المرض بدلا من القضاء عليه.

لكن تكرار الإصابة بالملاريا يسبب الأنيميا والوهن وآلام الجسم وفشل أعضاء الجسم وتضخم الطحال والعقم والإجهاض والتدهور المعرفي والهذيان وضعف المناعة، إذ تؤدي الملاريا إلى تقصير العمر وتدني جودة الحياة، بالإضافة إلى أعباء المرض الاجتماعية والاقتصادية.

وساهم ترخيص لقاح “آر تي إس-إس” المعروف باسم “موسكيريكس” في تحقيق تقدم كبير في المعركة ضد الملاريا، إذ يعّرض اللقاح الجسم لأحد المستضدات الأكثر شيوعا التي تطلقها الطفيليات، قبل أن تدخل إلى الكبد.

واستعان باحثو الملاريا بلقاح آخر ضد الكبد الوبائي ب، يستحث استجابة مناعية فعالة، وقرووا إضافته إلى مستضدات الطفيليات لتحسين الاستجابة المناعية، وأثبتت التجارب الأولية نجاح هذا اللقاح في القضاء على الطفيليات بنسبة 87 في المئة. لكن إذا هرب طفيلي واحد من الكبد ودخل إلى مجرى الدم، سيصبح قادرا على التكاثر بسرعة فائقة ويسبب المرض، ولهذا أثبتت التجارب أن نسبة فعالية اللقاح في الوقاية من الملاريا تنخفض إلى 50 في المئة بعد عام و40 في المئة بعد أربع سنوات.

وأثار اللقاح انتقادات واسعة، ورأى البعض أن هذه الأموال كان من الأفضل أن تنفق على إتاحة العقاقير أو الناموسيات لشريحة أكبر من السكان.

وأبدت منظمة الصحة العالمية ترحيبا بالمشروع، لكنها ستطبقه على مراحل، بدءا من بعض المناطق التجريبية في غانا وملاوي وكينيا. وستضاف الجرعات الأربعة المطلوبة من هذا اللقاح إلى برنامج التحصين الروتيني للأطفال في هذه الدول، مع حث السكان على استخدام التدابير الوقائية المعتادة من البعوض الناقل للملاريا.

لكن لود شورمان، مدير الشؤون الطبية بشركة غلاكسو سميث كلاين، يحذر من أن استخدام اللقاح في بعض المناطق دون الأخرى سيقلل حالات الإصابة بالمرض في هذه المناطق، لكنه سيسمح للمرض بمهاجمة الأشخاص الذين ليس لديهم مناعة منه بشراسة.

وقد ظهرت لقاحات أخرى عديدة ضد الملاريا، منها لقاح يستخدم الطفيلي نفسه ويُحقن في الوريد، وحقق نجاحا بنسبة 100 في المئة في التجارب المعملية، ومن المتوقع تجربته العام المقبل في جزيرة بيوكو في غينيا الاستوائية.

ويسعى باحثون آخرون إلى تعديل البعوض الذي يساعد في نشر البلازموديوم، وراثيا ليصبح عقيما أو غير قادر على حمل الطفيلي. وأطلقت العام الماضي أول مجموعة من البعوض المعدل وراثيا في بوركينا فاسكو لتعقيم الإناث.

وفي غانا استعدت العيادات لبدء برنامج التحصين الدوري ضد الملاريا وغيرها من الأمراض. كان الهواء دافئا ومشبعا بالرطوبة ومليئا بالبعوض. وعندما سألت نسياه-أساري إن كان أصيب من قبل بالملاريا، أجاب: “لم يسلم أي شخص استقر هنا لأكثر من شهر من مرض الملاريا، لكننا نأمل أن يساعد اللقاح في القضاء عليه”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى